فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا} أي وقطعنا قوم موسى ومعناه فرّقناهم وميّزناهم وفي ذلك رجوع أمر كل سبط إلى رئيسه ليخفّ أمرهم على موسى ولئلا يتحاسدوا فيقع الهرج ولهذا فجّر لهم اثنتي عشرة عينًا لئلا يتنازعوا ويقتتلوا على الماء ولهذا جعل لكلّ سبط نقيبًا ليرجع بأمرهم إليه وتقدّم تفسير الأسباط، وقرأ إبان بن تغلب عن عاصم بتخفيف الطاء وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان {عشرة} بكسر الشين، وعنهم الفتح أيضًا وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر وهي لغة تميم والجمهور بالإسكان وهي لغة الحجاز و{اثنتي عشرة} حال وأجاز أبو البقاء أن يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب {اثنتي عشرة} على أنه مفعول ثان لقطعناهم ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال: {اثنتي عشرة} مفعول لقطعناهم أي جعلنا {اثنتي عشرة} وتمييز اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة و{أسباطًا} بدل من {اثنتي عشرة} وأممًا.
قال أبو البقاء نعت لأسباطًا أو بدل بعد بدل ولا يجوز أن يكون {أسباطًا} تمييزًا لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفردًا وذهب الزمخشري إلى أن {أسباطًا} تمييز قال: فإن قلت: مميز ما بعد العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعًا وهلا قيل: اثنتي عشر سبطًا، قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقًا لأنّ المراد وقطعناهم {اثنتي عشرة} قبيلة وكلّ قبيلة أسباط لا سبط فوضع {أسباطًا} موضع قبيلة ونظيره.
بين رماحي مالك ونهشل، و{أممًا} بدل من {اثنتي عشرة} بمعنى {وقطعناهم} {أممًا} لأنّ كل أسباط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى لا تكاد تأتلف انتهى، وما ذهب إليه من أن كل قبيلة أسباط خلاف ما ذكر الناس ذكروا أنّ الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب وقالوا: الأسباط جمع سبط وهم الفرق والأسباط من ولد إسحاق بمنزلة القبائل من ولد إسماعيل ويكون على زعمه قوله تعالى: {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} معناه القبيلة وقوله ونظيره:
بين رماحي مالك ونهشل

ليس نظيره لأنّ هذا من تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في الضرورة وكأنه يشير إلى أنه لو لم يلحظ في الجمع كونه أريد به نوع من الرماح لم يصحّ تثنيته كذلك هنا لحظ هنا الأسباط وإن كان جمعًا معنى القبيلة فميز به كما يميز بالمفرد، وقال الحوفي: يجوز أن يكون على الحذف والتقدير {اثنتي عشرة} فرقة ويكون {أسباطًا} نعتًا لفرقة ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه و{أممًا} نعت لأسباط وأنث العدد وهو واقع على الأسباط وهو مذكر لأنه بمعنى الفرقة أو الأمة كما قال: ثلاثة أنفس يعني رجالًا وعشر أبطن بالنظر إلى القبيلة انتهى ونظير وصف التمييز المفرد بالجمع مراعاة للمعنى.
قول الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ** سودًا كحافته الغراب الأسحم

ولم يقل سوداء.
وقيل: جعل كل واحدة من {اثنتي عشرة أسباطًا} كما تقول لزيد دراهم ولفلان دراهم ولعمر دراهم فهذه عشرون دراهم، وقيل: التقدير {وقطعناهم} فرقًا {اثنتي عشرة} فلا يحتاج إلى تمييز، وقال البغوي: في الكلام تأخير وتقديم تقديره وقطعناهم أسباطًا أممًا اثنتي عشرة وهذه كلها تقادير متكلّفة والأجرى على قواعد العرب القول الذي بدأنا به.
{وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتي عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
تقدم تفسير نظير هذه الجمل في البقرة وانبجست: إن كان معناه ما قال أبو عمرو بن العلاء فقيل: كان يظهر على كلّ موضع من الحجر فضربه موسى مثل ثدي المرأة فيعرق أولًا ثم يسيل وإن كان مرادفًا لانفجرت فلا فرق، وقال الزمخشري: هنا الأناس اسم جمع غير تكسير نحو رخاء وثناء وثؤام وأخوات لها ويجوز أن يقال: إنّ الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو سكارى وغيارى من الفتحة انتهى ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنه لم ينطلق بإناس بكسر الهمزة فيكون جمع تكسير حتى تكون الضمة بدلًا من الكسرة بخلاف سكارى وغيار فإنّ القياس فيه فَعالى بفتح فاء الكلمة وهو مسموع فيهما، (والثاني): أنّ سكارى وغيارى وعجالى وما ورد من نحوها ليست الضمة فيه بدلًا من الفتحة بل نصّ سيبويه في كتابه على أنه جمع تكسير أصل كما أن فعالى جمع تكسير أصل وإن كان لا ينقاس الضمّ كما ينقاس الفتح، قال سيبويه في حدّ تكسير الصفات: وقد يكسرون بعض هذا على فعالى، وذلك قول بعضهم سكارى وعجالى، وقال سيبويه في الأبنية أيضًا: ويكون فعالى في الاسم نحو حبارى وسماني ولبادي ولا يكون وصفًا إلا أن يكسر عليه الواحد للجمع نحو عجالى وكسالى وسمانى فهذان نصّان من سيبويه على أنه جمع تكسير وإذا كان جمع تكسير أصلًا لم يسغ أن يدّعي أن أصله فعالى وأنه أُبدلت الحركة فيه وذهب المُبرّد إلى أنه اسم جامع أعني فعالى بضم الفاء وليس بجمع تكسير فالزمخشري لم يذهب إلى ما ذهب إليه سيبويه ولا إلى ما ذهب إليه المبرد لأنه عند المبرّد اسم جمع فالضمة في فائه أصل ليست بدلًا من الفتحة بل أحدث قولًا ثالثًا.
وقرأ عيسى الهمداني من طيبات ما رزقتكم موحّدًا للضمير.
{وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شتئم وقولوا حطّة وادخلوا الباب سجّدًا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدّل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون} تقدّمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكأن هذه مختصرة من تلك إلا أنّ هناك {وإذ قلنا ادخلوا} {وإذ قيل لهم اسكنوا} وهناك {رغدًا} وسقط هنا وهناك {وسنزيد} وهنا {سنزيد} وهناك {فأنزلنا على الذين ظلموا} وهنا فأرسلنا عليهم وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه فقوله: {وإذ قيل لهم} وهناك {وإذ قلنا} فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، وهناك {ادخلوا} وهنا {اسكنوا} السّكنى ضرورة تتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشيء وهنا بما تسبّب عن الدخول وهناك {فكلوا} بالفاء وهنا بالواو فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعدما قبلها، وقيل الدخول حالة مقتضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقيبة فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها ويزعم بعض النحويين أنه أولى بحاملها وأكثر.
وقيل ثبت {رغدًا} بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذّ ولا هم أحوج.
وأما التقديم والتأخير في {وقولوا} {وادخلوا}، فقال الزمخشريّ: سواء قدّموا الحطة على دخول الباب وأخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما انتهى، وقوله سواء قدّموا وأخّروها تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها كما قال تعالى: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} ويمكن أن يقال: ناسب تقديم الأمر بدخول الباب {سجّدًا} مع تركيب {ادخلوا هذه القرية} لأنه فعل دالّ على الخضوع والذلة و{حطة} قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشيء وهو الدخول ولأنّ قبله {ادخلوا} فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع ولأنّ دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسّكنى.
وأما {سنزيد} هنا فقال الزمخشري موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرح الواو لا يخلّ بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له: {سنزيد المحسنين} وزيادة {منهم} بيان وأرسلنا وأنزلنا و{يظلمون} ويفسقون من واد واحد، وقرأ الحسن: {حطة} بالنصب على المصدر أي حطّة ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب بقولوا: على حذف التقدير {وقولوا} قولًا {حطّة} أي ذا {حطة} فحذف ذا وصار {حطّة} وصفًا للمصدر المحذوف كما تقول: قلت حسنًا وقلت حقًّا أي قولًا حسنا وقولًا حقًّا، وقرأ الكوفيون وابن كثير والحسن والأعمش {نغفر} بالنون {لكم خطيئاتكم} جمع سلامة إلا أن الحسن خفّف الهمزة وأدغم الياء فيها، وقرأ أبو عمرو {نغفر} بالنون لكم خطاياكم على وزن قضاياكم، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو تغفر بالتاء مبنيًّا للمفعول {لكم خطيئاتكم} جمع سلامة، وقرأ ابن عامر تغفر بتاء مضمومة مبنيًّا للمفعول لكم خطيئتكم على التوحيد مهموزًا.
وقرأ ابن هرمز تغفر بتاء مفتوحة على معنى أنّ الحطّة تغفر إذ هي سبب الغفران. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وقطعناهم} أي قومَ موسى لا الأمةَ المذكورةَ منهم، وقرئ بالتخفيف وقوله تعالى: {اثنتى عَشْرَةَ} ثاني مفعولي قطع لتضمّنه معنى التصيير، والتأنيثُ للحمل على الأمة أو القِطعة، أي صيرناهم اثنتي عشْرةَ أمةً أو قطعةً متميزًا بعضُها من بعض، أو حالٌ من مفعوله أي فرقناهم معدودين هذا العددَ، وقوله تعالى: {أَسْبَاطًا} بدلٌ منه ولذلك جُمع، أو مميزٌ له على أن كل واحدة من اثنتي عشرةَ قطعةً أسباطٌ لا سبطٌ وقرئ {عشِرة} بكسر الشين وقوله تعالى: {أُمَمًا} على الأول بدلٌ بعد بدل أو نعتٌ لأسباطًا وعلى الثاني بدل من أسباطًا {وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} حين استولى عليهم العطشُ في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعِهم لا بمجرد استسقائِهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لهم لقوله تعالى: {وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} وقولُه تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر} مفسرٌ لفعل الإيحاءِ وقد مر بيانُ شأنِ الحَجَر في تفسير سورة البقرة {فانبجست} عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلامُ قد حذف تعويلًا على كمال الظهورِ وإيذانًا بغاية مسارعتِه عليه السلام إلى الامتثال وإشعارًا بعدم تأثير الضربِ حقيقةً وتنبيهًا على كمال سرعةِ الانبجاسِ وهو الانفجارُ كأنه حصل إثرَ الأمر قبل تحقق الضربِ كما في قوله تعالى: {اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} أي فضرب فانبجست {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسباطِ وأما ما قيل من أن التقديرَ فإن ضربت فقد انبجست فغيرُ حقيقٍ بجزالة النظمِ التنزيلي، وقرئ {عشَرة} بكسر الشين وفتحها {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كلُّ سبطٍ، عبّر عنهم بذلك إيذانًا بكثرة كل واحدٍ من الأسباط {مَّشْرَبَهُمْ} أي عينَهم الخاصةَ بهم {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} أي جعلناها بحيث تُلقي عليهم ظلَّها تسير في التيه بسيرهم وتسكُن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون بضوئه.
{وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} أي الترنجين والسمانى. قيل: كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعث الجَنوبُ عليهم السُّمانى فيذبح الرجل منهم ما يكفيه {كُلُواْ} أي وقلنا لهم: كلوا {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي مستلذاته، وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن المن والسلوى {وَمَا ظَلَمُونَا} رجوعٌ إلى سنن الكلامِ الأولِ بعد حكايةِ خطابِهم، وهو معطوفٌ على جملة محذوفةٍ للإيجاز والإشعارِ بأنه أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعم الجليلةِ وما ظلمونا بذلك {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} إذ لا يتخطاهم ضررُه، وتقديمُ المفعولِ لإفادة القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضربٌ من التهكم بهم، والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدِلالة على تماديهم فيما هم فيه من الظلم والكفر. اهـ.